هي السيدة زبيدة بنت محمد البواب الميزوني التي تزوج منها الجنرال مينو قائد الحملة الفرنسية على مصر بعد أن أسلم و تسمى بعبد الله مينو.
بالرغم من قلة الإشارات التي تناولت قصة زبيدة أو غادة رشيد في كتب التاريخ, لكنها تظل واحدة من القصص المثيرة للفضول والاهتمام, كما أنها مازالت تثير مجموعة من علامات الاستفهام.. خاصة حول نهاية زبيدة وما أثير حولها من شائعات.. القصة نفسها لها بعد رومانسي جذاب.. قصة زواج حاكم فرنسي مينو من فتاة عربية مصرية والتي تبدأ أول خطوطها فور إعلان الجنرال جاك فرانسوا دي مينو حاكم رشيد وصديق نابليون بونابرت الشخصي عن رغبته في الزواج من مصرية.. وهو ما جعل أهل رشيد يسارعون في تزويج بناتهم من أبناء رشيد وخاصة عائلة الجارم التي تمني مينو مصاهرتها حسب ما ذكره الجبرتي في كتابه.
ولكن كيف اهتدي مينو إلي زبيدة محمد البواب.. وما دوافعه في الارتباط بها دون غيرها من بنات رشيد؟
هل كان لسطوة جمالها المبهر سلطة الحسم لدي الحاكم الفرنسي المفتون ببنات مصر كما يؤكد كثير من الرواة أم أن طمعه في ثروة أبيها التاجر الثري هي التي حسمت هذا القرار كما يشير آخرون؟ خاصة أن ما لا يعلمه الكثيرون ـ وعلي عكس ما جاء في رواية علي الجارم غادة رشيد ـ أنها لم تكن عذراء وإنما مطلقة من زوجها الأول سليم أغا نعمة الله الذي لا نعرف عنه الكثير ولا عن أسباب طلاقها أو الفترة التي انتظرت خلالها زواجا جديدا!!
ولأجل عيون زبيدة أعلن مينو إسلامه.. وغير اسمه إلي عبدالله وأتم زواجه منها بكل شروط أسرتها المسلمة.. وهو الزواج الذي تم قبل عام من الاحتفال بسبوع ابنه سليمان مراد في18 يناير1801 حسبما رواه الجبرتي.
زبيدة البواب.. وحرية المرأة!
لكن بعض من تناولوا قصة هذا الزواج التقطوا فيه جانبا جديدا باعتباره أول إشارة لتحرر المرأة المصرية ففي الجزء الثاني من كتابه تاريخ الفكر المصري الحديث.. يقول د. لويس عوض تزوج مينو بامرأة من رشيد وعاملها معاملة السيدات الفرنسيات, يمد إليها يده كلما هم بالدخول معها إلي غرفة الطعام, يتحري لها أوفق المجالس, ويقدم إليها أشهي الأطعمة, وإذا سقط منها منديل الطعام الموضوع علي فخذيها بادر بأخذه وإعادته إلي مكانه. ويشير د. عوض إلي كتاب كلوت بك عن الحملة الفرنسية كمرجع لهذه الحكاية ويشير إلي هذا الزواج باعتباره بداية تحرر المرأة وأن زبيدة لها الفضل في هذا التحرر.
وبغض النظر عن رأي د. عوض والذي وجه بمجموعة من الانتقادات والمعارضات فالثابت أن قصة هذا الزواج لم تشهد سوي أيام معدودة من السعادة بدأت بعدها رحلة.. الألم.. وانهيار الأحلام.
فقد تم حصار مينو في الإسكندرية, والأسطول الإنجليزي أجبر الفرنسيين علي الرحيل وهو ما جعل زبيدة تأخذ قرارا بالهروب بصحبة أخيها علي وطفلها سليمان مراد من رشيد حتي الرحمانية ومنها إلي القاهرة حيث أقامت في بيت الألفي في الأزبكية قبل أن تصعد إلي القلعة لتختبيء فيها. وبعد انتهاء المفاوضات بين قائد الأسطول الإنجليزي وقائد الحملة بالإنابة ديزيه رفضت زبيدة مغادرة مصر بغير زوجها.
لكن الكثير من المؤرخين شككوا في رفضها المغادرة وتمسكها بالبقاء في مصر.. ويضيف د. محمد فؤاد شكري في كتابه عبدالله جاك مينو وخروج الحملة من مصر.. أن زبيدة طلبت من قائد الأسطول الإنجليزي أن يسمح لها بالسفر للقاء زوجها في الإسكندرية, وأنها بالتالي قد أتاحت لمينو أن يعيد المفاوضات مع الإنجليز.. هذه المفاوضات التي تمت في المرة الأولي بدونه.
أفول قصة الحب
المرض ولاري ـ كبير جراحي الحملة ـ هما اللذان شاركا مينو وزوجته وطفلهما علي ظهر السفينة ديدون إلي ميناء طولون.. وبسبب اشتداد المرض قضي مينو فترة الحجر الصحي بسانت ماندرييه.
ولكن يبدو أن قصة الحب التي جمعت الزوجين بدأت في الأفول بعد وصولهما إلي فرنسا حيث أصبح مينو حاكما لإقليم فلورنسا.. يقول المؤلف: ومع أن مينو أحضر زوجته المصرية إلي تورين فقد تركها مع ولدها الصغير في شبه عزلة تامة بينما اتخذ لنفسه عشيقات عديدات من الراقصات والممثلات الجميلات, وسرعان ما تراكمت عليه الديون بسبب إسرافه وتبذيره, وعظمت الشكوي منه بسبب خروجه علي التقاليد واتخاذه من إحدي الراقصات جين جيراسين عشيقة ومحظية يعيش معها علانية ويدعوها لحضور الحفلات والمقابلات الرسمية وهو ما جعلها تتدخل تدريجيا في شئون الحكم وصارت هدفا يلجأ إليه كل أصحاب الحاجات لتتوسط لهم لدي مينو لقضائها.
بمقاييس الجمال السائدة لديهم كانت زبيدة البواب عادية الجمال وليست فاتنة وهو ما جعل مينو يعود إلي دينه ويرتد عن الإسلام.
ولم تذهب زبيدة أبدا إلي باريس فقد تركها مينو في مرسيليا ولم ينفق عليها, ولكن الذي تكفل بنفقاتها خادمها المصري سرور!!
بينما يذكر رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز أن مينو عندما عاد إلي بلاده عاد إلي النصرانية, وأبدل العمامة بالبرنيطة, ومكث مع زوجته وهي علي دينها عدة أيام, فلما انجبت ابنها أراد أن يعمده علي عادة الغرب, يقصد الابن الثاني المولود في تورين رفضت وقالت لا أنصر ولدي أبدا. فقال لها زوجها إن كل الأديان حق, فلم ترض أبدا فقال لها إن القرآن ناطق بذلك وأنت مسلمة فعليك أن تصدقي كتاب نبيك, ثم أرسل لإحضار أعلم الإفرنج باللغة العربية البارون دساس الذي كان علي معرفة بالقرآن, وقال لها يقنعها سليه عن ذلك فأجابها البارون بالإشارة إلي قوله تعالي: إن الذين آمنوا والذين هادوا, والنصاري والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فحجها بذلك فأذنت بمعمودية ولدها.. وانتهي الأمر علي ما قيل إنها تنصرت. أما الدكتورة ليلي عنان فتؤكد أن مينو قد أخذ من زبيدة ابنها وأوكل به إلي أسرة فرنسية لكي تحسن تربيته.
علي الجارم الأدب بعيد عن التاريخ
ويناقض الأديب علي الجارم في روايته غادة رشيد كل ما ذكرته كتب التاريخ, فلم يذكر لها ولدا, ونسج خيوط تلك العلاقة الغرامية بين زبيدة وابن عمها محمود وكيف أنها عادت بمساعدة خادمها سرور وعرفت أن محمود قد مات, فذهبت إلي قبره حيث وجدت زوجة محمود الإنجليزية لورا تبكيه, وجلستا تبكيانه معا, وعندما أشرق ضوء النهار وجد أهالي رشيد السيدتين وقد فارقتا الحياة وأقاموا لهما ما يسمي بقبر الشهيدتين, ورغم أن الأديب علي الجارم من أسرة عريقة في رشيد تمني مينو مصاهرتها إلا أنه لم يلتزم بالتاريخ الحقيقي لنهاية زبيدة.
ضاعت زبيدة.. فماذا بقي منها؟
رغم طول الفترة التي استغرقها البحث عن قبر هاتين السيدتين في رشيد لم نتمكن من العثور عليه, كما أن قائمة الآثار الطويلة في رشيد لم تتضمنه.. ونفي أهالي رشيد وجود أي جيل لاحق من سلالة زبيدة لكن منزلها مازال شامخا يطل علي فرع رشيد ورغم أعمال الترميم التي أسهمت في تجميله وجعلته شاهدا علي واحدة من قصص التاريخ التي يمتزج فيها الغرام بالسياسة والحلم بالعبث تماما كما هو تاريخ زبيدة نفسه خاصة أيامها الأخيرة التي تختلط فيها الشائعات بالوقائع.. هل احترفت البغاء فعلا تحت ضغط الحاجة والإهمال.. هل أدمنت الخمر.. وعاشت غريبة وضائعة في شوارع مارسيليا.. قبل أن تلقي حتفها في النهاية غريبة ووحيدة؟! لا توجد إجابة مؤكدة عن هذه الأسئلة.. فكل ما كتب عنها قليل.. والحلم الذي تنبأ به لها ودع المنجمين لم يترك لها الفرصة لتعرف مدي قسوة نهايتها الفاجعة وآلامها التي لا نعلم عنها شيئا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق